تل أبيب تحاصر أسراها.. وتمنع الحياة عن من تبقّى حيًا
بينما تُبدي المقاومة الفلسطينية استعدادًا لإدخال الطعام والدواء لأسرى الاحتلال مقابل دخول المساعدات للفلسطينيين، تصر تل أبيب على حصار غزة ومعها أسراها،وتعرضهم للموت المفتعل والمتعمد لتسقط مع هذه الحقيقة سرديتها المتعلقة بحماية الاسرى.
في سابقة لا تخلو من المفارقة الموجعة، وجدت دولة الاحتلال نفسها اليوم في موضع الجلاد والضحية في آنٍ معًا. لكنها لم تُجبر على هذا التناقض، بل صنعته بيديها، حين قررت أن تحاصر غزة بكل ما فيها ومن فيها، ثم تحاصر أسراها داخل هذا الحصار، فتجعلهم رهائن في قيد قصفها، لا في قيد المقاومة
كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة حماس، أعلنت مساء الأحد، على لسان الناطق العسكري أبو عبيدة، استعدادها الكامل لإدخال الأغذية والأدوية إلى الأسرى الإسرائيليين في غزة، شرط أن يُفتح الباب ذاته أمام مليوني فلسطيني يواجهون الجوع والموت تحت الحصار. الشرط لم يكن استعلاءً، بل تساؤلًا إنسانيًا: كيف تُطالب بإطعام أسراك، بينما تقتل الجائعين بالقصف والتجويع؟ في كلماته، أوضح أبو عبيدة أن الأسرى لا يُستهدفون ولا يُعاملون بعداء، بل يتناولون من الطعام القليل ذاته الذي يُقتسم بين المقاومين وأبناء القطاع. بل ذهب أبعد من ذلك حين طالب بوقف طلعات الطيران خلال تسليم الطرود الإنسانية، في إشارة إلى حرص المقاومة على توفير الحد الأدنى من الكرامة حتى لمن قاتل ضدها
بثت كتائب القسام فيديو للأسير أفيتار دافيد، ظهر فيه منهك الجسد، شاحب الملامح، يتحدث من داخل نفق عن معاناته، ويلوم قادته الذين تركوه خلفهم. الرجل لم يطلب من القسام طعامًا، بل ناشد حكومته التي ترفض أي اتفاق لإنقاذه. والرسالة، وإن بدت فردية، فإنها تختصر حالة سياسية كاملة: الأسير الذي جاع لم يُنسَ من المقاومة، بل نُسي من دولته
وهنا تتجلى أقسى المفارقات. تل أبيب، التي تدّعي تمسكها بحقوق الإنسان، تمنع دخول الغذاء إلى أسراها. تحاصرهم كما تحاصر غزة، ثم تخرج للعالم باكية شاكية، تدين من يطعم أسراها من قوت أبنائه. أي قلب هذا الذي يختنق بالوحشية حتى يصير العدل نفسه جريمة؟ وسائل الإعلام الغربية التقطت صور الأسرى الهزلى كدليل على “جرائم” المقاومة، لكنها لم تُعنَ بإظهار صور الأطفال في شمال غزة وهم يفتشون بين الركام عن كسرة خبز. لم تذكر أن المستشفيات تُغلق أبوابها بسبب انعدام الوقود، وأن الأمهات يرضعن أبناءهن ماءً مالحًا لأن الحليب مفقود، وأن الصليب الأحمر ممنوع حتى من السؤال
في هذا السياق، يصبح كل اتهام للمقاومة مهزلة. فالفعل الأخلاقي الصافي جاء منها: عرضٌ إنساني مشروط بفتح طريق النجاة للجميع. أما من يملك الشاحنات والطائرات والمرافئ، فهو ذاته من يقصفها ويدفن فيها الدواء والخبز والنجاة
ما يُحاكم عليه أهل غزة اليوم ليس تجويع الأسرى، بل قدرتهم على الصمود، على البقاء أحياء رغم الموت المتراكم. وما يُحاكم عليه أبو عبيدة ليس تقصيره، بل خطيئة أخلاقية ارتكبها حين فضح زيف الرواية، وكشف أن الأسير يأكل من نفس الطبق الذي يُقتسم بين الجريح والمقاتل والطفل. هذا هو لبّ المأساة: دولة تحتل أرضًا، تحاصر شعبًا، ثم تتباكى على من سقط في قيد هذا الحصار. نظام يُنكر الهواء والماء، ثم يطلب الرحمة لجنوده وهم في قلب الجحيم الذي صنعه بنفسه
العدالة الحقيقية لا تُقاس بهوية الجائع، بل بمن منعه عن الطعام. ومن ينبغي أن يُدان اليوم، ليس من حمل السلاح ليبقى، بل من أمسك مفاتيح المعابر وقصفها. ليست المقاومة من جعلت الجوع سلاحًا، بل من حوّل الحصار إلى سياسة رسمية، والموت الجماعي إلى خيار استراتيجي.