يوم الوفاء.. طوفان بشري يجدد العهد مع الشهيدين السيد نصر الله والسيد صفي الدين
لم يكن يوم تشييع الشهيدين السيد حسن نصر الله والسيد هاشم صفي الدين يوم وداع، بل يوم ولادة جديدة للعهد، العاصمة اللبنانية بيروت وضاحيتها الجنوبية تحولت شوارعها وساحاتها، لقلوب نابضة اجتمعت على اسمين سيمجدهما التاريخ، حيث شُيّعت أجسادهما فوق الأكتاف، بينما سارت أرواحهما تحلق الى العلياء مسلّمة الراية لأمينِها والشعب الوفي المقاوم.
لم يكن فجر العاصمة اللبنانية بيروت يوم التشييع كأي فجر، بل كان لحظة توقفت فيها عقارب الزمن، واختلطت فيها الدموع بالهتافات، والوفاء بالعهد. في المدينة الرياضية، لم يكن المكان مجرد ساحة بل صار محرابًا تتعالى فيه الأصوات، وتلتقي فيه القلوب على قسم واحد: "لن تسقط الراية وإنّا على العهد"
من كل حدب وصوب، جاءوا يحملون في أعينهم مزيجًا من الحزن والاعتزاز، يسيرون بخطى الذين أدركوا أن الشهادة ليست نهاية، بل بداية عهد جديد. الجموع التي غصّت بها شوارع بيروت وضاحيتها الجنوبية لم تكن مجرد أعداد، بل كانت جسدًا واحدًا، قلبًا واحدًا، وصوتًا واحدًا يهتف باسم من ودّعوهم كما لو أنهم باقون بينهم، كما لو أن الأجساد ترحل، لكن الروح لا تموت.
حانت لحظة الوداع، وسجدت بيروت كلها تحت وقع الحزن الممزوج بالفخر. الأمهات المكلومات لم يلطمن الخدود، بل رفعن أكفّهن بالدعاء، والآباء لم ينحنوا من وجع الفقد، بل اشتدّت ظهورهم بعزم الصامدين. الشباب لم يبكوا على الراحلين، بل تعاهدوا على المسير في دربهم حتى النهاية.
تدفقت الجموع كنهر هادر، تلاطمت أمواجه في شوارع بيروت حتى كاد المكان يضيق بهم، لكن الأرواح التي اجتمعت في ذلك اليوم لم تعرف الضيق، بل امتدت إلى السماء، تودّع من رحلوا وترسل للعالم رسالة لا لبس فيها: "نحن أهل القضية، وأصحاب الأرض، وسنبقى ما بقيت الراية مرفوعة".
تقدّم النعشان فوق الأكتاف، وسارت خلفهما القلوب قبل الأقدام، والعيون شاخصة إلى من كان يومًا قائدًا، وأصبح اليوم رمزًا خالدًا. هناك، في لحظة الوداع، لم يكن البكاء هو اللغة الوحيدة، بل كانت الصلوات ترتفع مع الأيادي، والأهازيج تختلط بالدموع، والوعد يُكتب من جديد: "لن تُكسر المقاومة، ولن نترك السلاح حتى النصر أو الشهادة".
لم يكن هذا مجرد تشييع، بل كان إعلانًا جديدًا للعهد، وخطوة أخرى على درب التحرير، ورسالة للعدو أن الدماء التي تُسفك هنا لا تذهب هدراً، بل تزهر في كل زاوية من الوطن، لتُنبت أجيالًا لا تعرف التراجع.
بيروت لم تبكِ فقط، بل انتفضت بكرامتها، وارتفع فيها صوت الوفاء أعلى من صوت الفقد. في وداع الشهيدين، تجلّت الحقيقة الساطعة: "إنهم لا يرحلون، بل يعودون في كل صباح، في كل هتاف، في كل راية ترفرف عاليًا نحو القدس".
وفي لحظة وداعٍ توقّف عندها الزمن، ظهر السيد القائد، بين الجموع، مستمعًا هذه المرة، لا خطيبًا كما اعتاد، كأن الأرض احتضنت صوت من وهبها عمره، والجموع تردد: "سلام عليك يوم وُلدت، يوم صمدت، ويوم ارتقيت نجمًا لا يأفل"
وفي بيروت، كما في كل زاوية من لبنان، كان التشييع رسالة لمن يراقب، بأن هذا الشعب يزداد صلابة وعزمًا، وبأن دماء الشهداء هي زهرٌ لا يذبل، وأجنحة تحلّق في سماء القضية، لتؤكد أن كل وداعٍ هو بداية جديدة لنضال لا يعرف التراجع.
حاول العدو أن يراقب من سمائه، لكن لا طائراته ولا أجهزته تستطيع أن تفهم حقيقة المشهد، حيث تكتبه العيون الدامعة، والهتافات التي لا تنكسر، والحناجر التي تصدح بوعدٍ أبدي: لن يُهزم شعبٌ صنع من دمه مآذن نصر، ومن تضحياته طريقًا لا ينتهي إلا بتحرير الأرض والإنسان.