09 شباط , 2025

انسحاب الاحتلال من محور نتساريم: تحول استراتيجي يكشف فشل الرؤية الإسرائيلية في غزة

في سياق المعركة المستمرة بين الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، يعد انسحاب جيش الاحتلال من محور نتساريم حدثًا استراتيجيًا بالغ الأهمية، يفتح أبوابًا جديدة للتحليل والتفسير العسكري والسياسي، انسحاب يجسد انعكاس حقيقي لتحولات جوهرية في موازين القوى، ويعد بمثابة فشل استراتيجي للحسابات الإسرائيلية التي كانت تأمل في تقسيم غزة والسيطرة على مناطقه الشمالية.

محور نتساريم، الذي كان يمثل أحد أبرز معاقل الاحتلال في القطاع، كان يشكل نقطة محورية في خطط الاحتلال العسكرية للهيمنة على غزة. هذا المحور يمتد على مسافة تتراوح بين 80 كيلومترًا في عرض المنطقة ويمتد عمقًا نحو 6.5 إلى 7 كيلومترات، وهو يضم مواقع عسكرية رئيسية معززة بمرافق مساندة تهدف إلى ضمان وجود دائم للقوات الإسرائيلية. ورغم أن الاحتلال حاول توسيع هذا المحور بشكل ضخم، فإن العوامل العسكرية والسياسية أجبرت جيش الاحتلال على إعادة حساباته، وكان قرار الانسحاب علامة على تصاعد الضغوط التي مارسها مقاتلو المقاومة، وكذلك التوازنات السياسية التي ظهرت في ظل المفاوضات.

الهدف الرئيسي للاحتلال من سيطرته على محور نتساريم كان فرض واقع جديد في قطاع غزة يتمثل في تقسيمه إلى مناطق تحت السيطرة الإسرائيلية مع فرض حصار كامل على شمال القطاع. كان يعتقد الاحتلال أن هذه السيطرة ستتيح له القدرة على عزل الفصائل المقاومة والتأثير على قدرتها في التصدي للعمليات العسكرية. إلا أن المقاومة الفلسطينية، التي أصبحت أكثر تنسيقًا وفاعلية على الأرض، كانت قد وضعت أمام الاحتلال واقعًا مختلفًا تمامًا، فرض معادلات جديدة توازن القوى، وأدت إلى إجهاض خطط الاحتلال.

مع تصاعد العمليات العسكرية على مدار الأشهر الماضية، وبينما كانت قوات الاحتلال تحاول تعزيز وجودها في نتساريم، ظهرت مشكلات كبيرة في الحفاظ على المواقع التي كانت قد أنشأتها. رغم استخدام الاحتلال تقنيات حديثة في بناء وتدعيم المواقع، فإن تلك المواقع كانت قابلة للتفكيك في أي لحظة. وهذا يعكس حجم الضغط الكبير الذي تعرضت له القوات الإسرائيلية من جانب المقاومة، ويؤكد أن الاحتلال قد أُجبر على الانسحاب في وقت كان يعتقد فيه أن سيطرته على هذا المحور ستكون دائمة.

الانسحاب من نتساريم يحمل بعدًا سياسيًا استراتيجيًا يتجاوز مجرد التحرك العسكري. فهو يمثل فشلًا للخطط الإسرائيلية في فرض واقع جديد على الأرض، حيث أن هذا الانسحاب قد يعزز من قوة موقف المقاومة الفلسطينية في المفاوضات السياسية على الساحة الدولية. يأتي هذا في وقت حساس، حيث تحاول الأطراف الدولية الوساطة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل لتثبيت هدنة طويلة الأمد، ومن ضمن هذه المساعي كان التفاوض على اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في يناير 2025، والذي يفرض على الاحتلال الانسحاب من مواقع أخرى في غزة.

بجانب هذا، يعتبر الانسحاب خطوة نحو إعادة السيادة الفلسطينية إلى مناطق كانت تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، وهو تطور بالغ الأهمية في سياق تعاظم الدعم الدولي لفلسطين. تعكس هذه التطورات حجم التأثير الذي قد يحدثه استمرار الضغط العسكري والسياسي على الاحتلال، وهو ما يعكس زيادة قدرة الفصائل الفلسطينية على فرض معادلات جديدة على الأرض.

من الناحية العسكرية، يمثل انسحاب الاحتلال من محور نتساريم تطورًا هامًا في ساحة المعركة. فمع التخفيف من الحصار المفروض على قطاع غزة، أصبح بإمكان المواطنين الفلسطينيين التحرك بحرية أكبر، مما سيحسن من قدرتهم على التفاعل مع التحديات اليومية في ظل الحصار. كما أن انسحاب الاحتلال من هذه المنطقة سيفتح الطريق أمام الفصائل المقاومة لتوسيع نطاق عملياتها العسكرية، بل قد يؤدي إلى تغييرات استراتيجية في موازين القوة داخل القطاع.

على الرغم من أن الاحتلال قد يواصل محاولات التلاعب بالاتفاقات أو التأجيل في تنفيذ الانسحاب بشكل كامل، إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى أن الانسحاب سيكون خطوة حتمية بموجب الاتفاقات القائمة. ويشمل ذلك التأثيرات المرتبطة بمناطق أخرى على الحدود مع غزة، مثل محور فيلادلفيا، الذي يبدو أنه سيشهد تغييرات مهمة في الفترة القادمة.

إن أهمية انسحاب الاحتلال من نتساريم لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تمتد لتشمل تغييرًا في المعادلات السياسية في المنطقة. يمثل هذا الانسحاب ضربة جديدة للرؤية الإسرائيلية تجاه غزة، ويؤكد أن المقاومة الفلسطينية، من خلال تكتيكاتها العسكرية والدبلوماسية، أصبحت قادرة على فرض موازين قوى جديدة. يبعث ذلك برسالة إلى العالم مفادها أن الاحتلال لا يستطيع فرض إرادته على غزة، وأن أي تسوية سياسية في المستقبل يجب أن تأخذ بعين الاعتبار إرادة الشعب الفلسطيني والمقاومة.

إن انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من محور نتساريم يمثل نقطة تحول استراتيجية لا يمكن تجاهلها في سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. سواء على المستوى العسكري أو السياسي، يحمل هذا الانسحاب دلالات عميقة تشير إلى فشل الخطط الإسرائيلية في فرض واقع جديد في غزة، ويعزز من قدرة الفلسطينيين على المساومة وتغيير مسارات المواجهة مع الاحتلال. وبالنظر إلى الأوضاع الحالية، يبدو أن هذا الحدث قد يكون مقدمة لمزيد من التحولات الجذرية في المنطقة، مما يفتح آفاقًا جديدة للمقاومة الفلسطينية في معركتها المستمرة ضد الاحتلال.

Add to Home screen
This app can be installed in your home screen